أمي، قالت لي يوماأمي،قالت لي يوما:"يا ولدي،حين أتيتَ إلى هذي الدنياأحسستُ بخطفة برقٍ في عينيّ…"وأمي تعرف أني أعرفهالم أنظر في عينيها، لم أعرف لونهما(لا شكّ هما سوداوان)لكني أشعرُ كلّ مساءٍ أني أتباركُبالدمع المنهلِّ من العينين عليَّ…أنا، الابن الضالّ، المسكينالضائع بين سماوات القاراتكنجمٍ أفلت…………………………يا أمّي:غطّيني بحرير ترابكبالنور الدافق من عتمة قبركغطّيني بالفوحولون حليبك…ما هذي القرية، يا أمّي؟يا ما طوّفنا في الطرقاتويا ما أطللنا من شرفات نسألها عن معنىلكني لم أعرف، يا أمّيإلا قبل ثلاثة أعوام، أن الدنيا سجنٌيسكنه موتى…لم أعرف، إلا قبل ثلاثة أعوامٍأنك، وحدك، كنتِ صديقة عمريوحديقة أحلاميكنا في كوخ من سعفٍ وجذوعٍكوخ في بستان النجديّبناه أبي بيديه العاريتين…الجدول يلمس باب الكوخويلحسُ أطرافَ القدمين بأسماكٍ من فضّة.ما كان الكوخ لنا منتجعا صيفيا-كان المنزلَ…أذكرُ أنا كنّا نهبط في الماءونمسك سطح الماء كحيّات الماءلقد كنّا الفقراءولا نعلمُ أنّا فقراء…………………………ولكنّ الصيف سيمضيلتغور إلى القاع الأسماكُ وحيّاتُ الماءوستأتي الأمطارسيأتي البردويأتي جوع الزرزور…ونبتلّ، ونحن نيامٌ، بالمطر المتنزّل من سقف الكوخونضحكُنضحكُمرتجفين، نُقضقضُ أسنانا أرعدها البردُوأطرافا أنهكها الجوعُوأسألُ أمّي عن مأوى…الآنأكاد أرى وجه أبي الغائم…- ما أبعد هذا المنتبذ البحريّ بأبراج كنائسهعن قريتنا، حيث يغيم النخلُ-ولكني أغمض عينيّ لأبصر وجه أبي…كان جميلاجدّي قال له في المهد:"أنا، أسميتُكَ يوسف…"………………………لا أتذكّر أني كلّمتُ أبيلا أتذكّر أنّ أبي كلّمني…لكنّ الوجه يلحّ عليّ الآن:كوفيّته البيضاءالأنف المرهفوالعينين الواسعتين…هل لي أن أسأل إن كان أبي أجلسنيكالعصفورعلى كتفيه؟لماذا لم أسأل أمّي عنه؟أتراني كنت أضنّ بصورته البيضاء على الذكرى؟هل كنت أكوّنه؟هل كنت أشكلّه حسبَ هوايَ،وأمنحه الصورةَ؟………………………والآن…وفي هذا المنتبذ البحريّ(المطر المتقطّع منذ الفجر اغترز…)استروحتُ شميما من دشداشته…______________________________من ديوان "حياة صريحة". دمشق 2001 |