Loading

SAADI YUSUF

 

أمي، قالت لي يوما

أمي،

قالت لي يوما:

"يا ولدي،

حين أتيتَ إلى هذي الدنيا

أحسستُ بخطفة برقٍ في عينيّ…"

وأمي تعرف أني أعرفها

لم أنظر في عينيها، لم أعرف لونهما

(لا شكّ هما سوداوان)

لكني أشعرُ كلّ مساءٍ أني أتباركُ

بالدمع المنهلِّ من العينين عليَّ…

أنا، الابن الضالّ، المسكين

الضائع بين سماوات القارات

كنجمٍ أفلت…

………

………

………

يا أمّي:

غطّيني بحرير ترابك

بالنور الدافق من عتمة قبرك

غطّيني بالفوح

ولون حليبك…

ما هذي القرية، يا أمّي؟

يا ما طوّفنا في الطرقات

ويا ما أطللنا من شرفات نسألها عن معنى

لكني لم أعرف، يا أمّي

إلا قبل ثلاثة أعوام، أن الدنيا سجنٌ

يسكنه موتى…

لم أعرف، إلا قبل ثلاثة أعوامٍ

أنك، وحدك، كنتِ صديقة عمري

وحديقة أحلامي

 

 

كنا في كوخ من سعفٍ وجذوعٍ

كوخ في بستان النجديّ

بناه أبي بيديه العاريتين…

الجدول يلمس باب الكوخ

ويلحسُ أطرافَ القدمين بأسماكٍ من فضّة.

ما كان الكوخ لنا منتجعا صيفيا-

كان المنزلَ…

أذكرُ أنا كنّا نهبط في الماء

ونمسك سطح الماء كحيّات الماء

لقد كنّا الفقراء

ولا نعلمُ أنّا فقراء…

………

………

………

ولكنّ الصيف سيمضي

لتغور إلى القاع الأسماكُ وحيّاتُ الماء

وستأتي الأمطار

سيأتي البرد

ويأتي جوع الزرزور…

ونبتلّ، ونحن نيامٌ، بالمطر المتنزّل من سقف الكوخ

ونضحكُ

نضحكُ

مرتجفين، نُقضقضُ أسنانا أرعدها البردُ

وأطرافا أنهكها الجوعُ

وأسألُ أمّي عن مأوى…

 

الآن

أكاد أرى وجه أبي الغائم…

- ما أبعد هذا المنتبذ البحريّ بأبراج كنائسه

عن قريتنا، حيث يغيم النخلُ-

ولكني أغمض عينيّ لأبصر وجه أبي…

كان جميلا

جدّي قال له في المهد:

"أنا، أسميتُكَ يوسف…"

………

………

………

لا أتذكّر أني كلّمتُ أبي

لا أتذكّر أنّ أبي كلّمني…

لكنّ الوجه يلحّ عليّ الآن:

كوفيّته البيضاء

الأنف المرهف

والعينين الواسعتين…

هل لي أن أسأل إن كان أبي أجلسني

كالعصفور

على كتفيه؟

لماذا لم أسأل أمّي عنه؟

أتراني كنت أضنّ بصورته البيضاء على الذكرى؟

هل كنت أكوّنه؟

هل كنت أشكلّه حسبَ هوايَ،

وأمنحه الصورةَ؟

………

………

………

والآن…

وفي هذا المنتبذ البحريّ

(المطر المتقطّع منذ الفجر اغترز…)

استروحتُ شميما من دشداشته…

  ______________________________

من ديوان "حياة صريحة". دمشق 2001